سورة البلد - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البلد)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {لا أُقسم بهذا البلد}؛ أَقسم تعالى بالبلد الحرام، وما عطف عليه على أنّ الإنسان خُلق مغموراً بمقاساة الشدائد ومعاناة المشاقّ. واعترض بين القسم وجوابه بقوله: {وأنت حِلّ بهذا البلد}، أي: وأنت حالّ ساكن به، فهو حقيق بأن يُقسم به لحلولك به، أو: وأنت حِل، أي: تُستحل حرمتُكَ ويُؤذيك الكفرةُ مع أنَّ مكة لا يَحل فيها قتل صيد ولا بشر، ولا قطع شجر وعلى هذا قيل: {لا أٌقسم} نفي، أي: لا أقسم بهذا وأنت تلحقك فيه إذاية، وهذا ضعيف، أو: وأنت حلال يجوز لك في هذا البلد ما شئت مِن قتل كافر وغير ذلك مما لا يجوز لغيرك، وهذا هو الأظهر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ هذا البلد حرام، حرّمه اللهُ يومَ خلق السموات والأرض، لم يَحِلَّ لأحدٍ قبلي، ولا يحل لأحد بعدي، وإنما أُحل لي ساعة من نهارٍ»، يعني: فتح مكة، وفيه أَمَرَ صلى الله عليه وسلم بقتل ابن خَطَل، وهو متعلّق بأستار الكعبة.
فإن قلتَ: السورة مكية، وفتح مكة كان سنَة ثمان من الهجرة؟ قلتُ: هو وعد بالفتح وبشارة. انظر ابن جزي. وكثير من الآيات نزلت بمكة ولم يتحقق مصداقها إلاّ بعد الهجرة، كقوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة} [فصلت: 6، 7] وقوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ} [الأحقاف: 10] وغير ذلك.
{ووالدٍ وما وَلَد} أي: وآدم وجميع ولده، أو نوح وولده، أو إبراهيم وولده، أو إسماعيل ونبينا صلى الله عليه وسلم، ويؤيده أنه حَرَمُ إبراهيم ومنشأ إسماعيل، ومسكن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أو محمد صلى الله عليه وسلم وولده، أو جنس كل والد ومولود. {لقد خلقنا الإِنسانَ} أي: جنسه {في كبدٍ}؛ في تعب ومشقة، فإنه لا يزال يُقاسي فنون الشدائد من وقت نفخ الروح إلى حين نزعها، يُكابد مشاق التعلُّم، ثم مشاق القيام بأمور الدين وأمور معاشه وهموم دنياه وآخرته، ثم يكابد نزع روحه، ثم سؤاله في قبره ثم تعب حشره، ومقاساة شدائد حسابه، ثم مروره على الصراط، فلا راحة له إلاّ بعد دخول الجنة لتكون حلوة عنده، هذا في عموم الناس، وأمّا خواص العارفين فقد استراحوا حين وصلوا إلى معرفة الحق، فأسقطوا عنهم الأحمال؛ لتحققهم أنهم محمولون بالقدرة الأزلية، فلما أَسقطوا حِمْلَهم قام الله بأمرهم، لقوله: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، يقال: كَبِدَ الرجل كَبَداً: إذا وجعت كبده من مرض أو تعب.
{أَيَحْسَبُ أن لَّن يَقْدِر عليه أَحدٌ} أي: أيظن الإنسان الكافر أن لن يقدر على بعثه أحد، أو: أيظن بعض الإنسان ألن يغلبه أحدٌ، فعلى هذا نزلت في مُعَيّن قيل: هو أبو الأشدّين الجمحي، رجل من قريش كان شديد القوة، مغترًّا بقوته، كان يبسط له الأديم العكاظي فيقوم عليه، ويقول: مَن أزالني عنه فله كذا، فيجذبه عشرة فيتقطع قطعاً، ولا تزال قدماه، وقيل: عَمْرو بن عبد ود، وهو الذي اقتحم الخندق بالمدينة، وقتله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
{يقولُ أهلكتُ مالاً لُّبَداً} أي: كثيراً، جمع لُبْدَة وهو ما تلبّد بعضه على بعض، يريد كثرة ما أنفقه، مما كان أهل الجاهلية يسمونها مكارم ومعالي، رياءً وفخراً. {أيَحْسَبُ أن لمْ يَرَه أحدٌ}؟ حين كان ينفق ما ينفق رياءً وسُمعةً، وأنه تعالى لا يُحاسبه ولا يجازيه يعني: أنَّ الله كان يراه وكان عليه رقيباً فيُجازيه عليه.
ثم ذكر نِعمه عليه، فقال: {ألم نجعل له عينين} يُبصر بهما المرئيات، {ولساناً} يُعَبِّرُ به عما في ضميره، {وشفتين} يستر بهما فاه، ويستعين بهما على النُطق والأكل والشرب والنفخ وغيرها، {وهديناه النجدين} أي: طريقي الخير والشر المُفضيان إلى الجنة أو النار، فهو كقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل...} [الإنسان: 3] الآية. وليس المراد بالهدى معنى الإرشاد بل معنى الإلهام، أو: الثديين، وأصل النجد: المكان المرتفع، ومنه سُميت نجد لارتفاعها عما انخفض من الحجاز.
الإشارة: أقسم تعالى ببلد المعاني، التي هي أسرار الذات، ووالد، وهو الروح الأعظم وما تولّد منه من الأرواح الجزئيات، لقد خلق الإنسانَ في كبد: في تعب الظاهر والباطن إلاّ مَن رجع إلى أصله، أعني: روحانيًّا قدسيًّا، فإنه حينئذ يستريح من تعب الطبع. قال الكواشي: عن بعضهم: الإنسان في كبد ما دام قائماً بطبعه، واقفاً بحاله، فإنه في ظلمة وبلاء، فإذا فني عن أوصاف إنسانيته، بفناء طبائعه عنه، صار في راحةٍ. اهـ.
والحاصل: أنَّ الإنسان كله في تعب إلاَّ مَن عرف الله تعالى معرفة العيان، فإنه في روح وريحان، وجنات ورضوان. أَيَحْسَب الجاهل أن لن يقدر على حمل أثقاله أحدٌ، فلذلك أتعب نفسه في تدبير شؤونه، بلى نحن قادرون على حَمل حمله إن أسقطه توكلاً علينا. ألم نجعل له عينين، فلينظر بهما مَن حَمل السمواتِ والأرض، أليس ذلك بقادرٍ على حمل أثقاله؟ فليرح نفسه من تعب التدبير، فما قام به عنه غيرُه لا يقوم به هو عن نفسه، وجعلنا له لساناً يشكر به نِعَمَ مولاه، وشفتين يصمت بهما عما لا يعنيه، وهديناه الطريقين؛ الشريعة والحقيقة، فإذا سلكهما وصلناه إلينا.


يقول الحق جلّ جلاله: {فلا اقتحم العقبةَ}، الاقتحام: الدخول بشدة ومشقة والعقبة: كل ما يشق على النفس من الأعمال الصالحات، ولا هنا إمّا تحضيضية، أي: هلاَّ اقتح العقبة، وإمّا نافية، أي: فلم يشكر تلك الأيادي والنِعم، من البصر وما بعده، بالأعمال الصالحة من فك الرقاب وما سيذكره، فإن قلت: لا النافية إذا دخلت على الماضي ولم تكن دعائية وجب تكرارها؟ فأجاب الزمخشري: بأنها مكررة في المعنى، أي: فلا اقتحم ولا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً.. إلخ.
ثم عظَّم تلك العقبة بقوله: {وما أدراك ما العقبةُ} أي: أيّ شيء أعلمك ما هي العقبة التي أُمر الإنسان باقتحامها، أو نفي عنه اقتحامها؟ ثم فسّرها بقوله: {فَكُ رقبةٍ} أي: هي إعتاق رقبة أو إعانة في أداء كتابتها. قال ابن جُزي: وفك الأسارى من الكفار أعظم أجراً من العتق؛ لأنه واجب ولو استغرقت فيه أموال المسلمين، ولكنه لا يجزي في الكفارات. اهـ.
{أو إِطعامٌ في يومٍ ذي مَسْغَبةٍ} أي: مجاعة {يتيماً ذا مقربةٍ} أي: قرابة، {أو مسكيناً ذا متربةٍ}؛ ذا فقر، يقال: ترِب فلان: إذا افتقر والتصق بالتراب، ومَن قرأ {فكَ} و {أطعمَ} بصيغة الماضي فبدل من {اقتحم}، {ثم كان من الذين آمنوا} اي: دام على إيمانه، أو: ثُم كان حين فعل ما تقدّم من المؤمنين فيحنئذ ينفعه ذلك، وإنما جاء ب {ثم} لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة لا في الوقت، إذ الإيمان هو السابق على غيره، إذ لا يقبل عمل صالح إلاّ به، {وتَوَاصَوا بالصبرِ} عن المعاصي وعلى الطاعات، أو: المحن التي يُبتلى بهما المؤمن، {وتَوَاصَوا بالمرحمةِ}؛ بالتراحم فيما بينهم. {أولئك أصحابُ الميمنةِ} أي: الموصوفون بهذه الصفات هم أصحاب اليمين واليمْن، {والذين كفروا بآياتنا}؛ بما نصبناه دليلاً على الحق من كتاب وحجة، أو بالقرآن {هم أصحابُ المشئمةِ} أي: الشمال أو الشؤم، {عليهم نار موصدة}؛ مُطْبَقة، من أوصدت الباب وآصدته: إذا أغلقته.
الإشارة: هلاَّ اقتحم مريد الوصول العقبةَ، وهي سلوك الطريق، بخرق عوائد النفس وترك هواها وجَرِّها إلى مكروهها، وعن الحسن رضي الله عنه: عقبة والله شديدة، يُجاهد الإنسانُ نفسَه وهواه، وعدوه الشيطان. اهـ. ثم فسَّرها بفك الرقبة، أي: رقبة نفسه يفكها من أن يملكه السِّوى، أو: يفكها من الذنوب والعيوب، أو فكها من رِقّ الطمع في الخلق، فإنه بذر شجرة الذل، أو: فكها من سجن الأكوان إلى فضاء شهود المكوِّن، أو: فك رقبة الغافل الجاهل من رِقّ نفسه بتذكيره ووعظه أو تربيته، أو إطعام روح جائعة من اليقين، إمّا يتيماً لا أب له روحاني، أي لا شيخ له، فتذكِّره بما يتقوّى به إيقانه، أو فقيراً من أسرار التوحيد ترابيًّا أرضيًّا، فترقّيه إلى سماء الأسرار، ثم كان ممن آمن بطريق الخصوص، وتواصَى بالصبر على مشاق السير، والتراحم والتوادد والتواصل، كما هو شأن أهل النسبة، فهؤلاء هم أهل اليُمْن والبركة، وضدهم ممن جحدوا أهل الخصوصية هم أهل الشؤم. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.